الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)
.أمر المطوعة: ولما كثر الهرج ببغداد وامتدت أيدي الدعاوى باذايه الناس في أموالهم وأفشى المناكير فيهم وتعذر ذلك فخرجوا إلى القرى فانتهوها واستعدى الناس أهل الأمر فلم يغدوا عليهم فتمشى الصلحاء من عمل ريظ وكل بينهم ورأوا أنهم في كل درب قليلون بالنسبة إلى خيارهم فاعتزموا على مدافعتهم واشتد خالد المدريوش من أهل بغداد فدعا جيرانه وأهل محلته إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير أن يغيروا على السلطان فشد على من كان عندهم من أدعار وحبسهم ورفعهم إلى السلطان وتعدى ذلك إلى غير محلته ثم قام بعده سهل بن سلامة الأنصاري من الحريشية من أهل خراسان ويكنى أبا حاتم فدعا إلى مثل ذلك وإلى العمل بالكتاب والسنة وعلق في عنقه مصحفا وعبر على العامة وعلى أهل الدولة فبايعوه على ذلك وعلى قتال من خالف وبلغ خبرهما إلى منصور بن المهدي وعيسى بن محمد بن أبي خالد فنكروا ذلك لأن أكثر الدعار كانوا يشايعونهم على أمرهم فدخلوا بغداد بعد أن عقد عليه الصلح مع الحسن بن سهل على الأمان له ولأهل بغداد وانتظروا كتاب المأمون ورضي أهل البلد بذلك فسهل عليهم أمر المدريوش وسهل العهد لعلي الرضا والبيعة لإبراهيم بن مهدي ولما بلغ أهل بغداد أن المأمون قد بايع بالعهد لعلي بن موسى الكاظم ولقبه الرضا من آل محمد وأمر الجند بطرح السواد ولبس الخضرة وكتب بذلك إلى الآفاق وكتب الحسن بن سهل إلى عيسى بن محمد بن أبي خالد ببغداد يعلمه بذلك في رمضان من سنة احدى ومائتين وأمره أن يأخذ من عنده من الجند وبني هاشم بذلك فأجاب بعض وامتنع بعض وكبر عليهم إخراج الخلافة من بني العباس وتولى كبر ذلك منصور وإبراهيم ابنا المهدي وشايعهم عليه المطلب بن عبد الله بن مالك والسدي ونصر الوصيف وصالح صاحب المصلى ومنعوا يوم الجمعة من نادى في الناس بخلع المأمون والبيعة لإبراهيم بن المهدي ومن بعده لإسحق بن الهادي ثم بايعوه في المحرم سنة اثنتين ومائتين ولقبوه المبارك ووعد الجند بأرزاق ستة أشهر واستولى على الكوفة والسواد وخرج فعسكر بالمدائن وولى بها على الجانب الغربي العباس بن الهادي وعلى الجانب الشرقي إسحق بن الهادي وكان بقصر ابن هبيرة حميد بن عبد الحميد عاملا للحسن بن سهل ومعه القواد سعيد بن الساحور وأبو البط وغسان بن الفرج ومحمد بن إبراهيم بن الأغلب كانوا منحرفين عن حميد فداخلوا إبراهيم بن الهادي في أن يهلكوه في قصر ابن هبيرة وشعر بذلك الحسن بن سهل فاستقدم حميدا وخلا لهم الجو منه فبعث إبراهيم بن المهدي عيسى ابن محمد بن أبي خالد وملك قصر ابن هبيرة وانتهب عسكر حميد ولحق به ابنه بجوارية ثم عاد إلى الكوفة فاستعمل عليها العباس بن موسى الكاظم وأمره أن يدعو لأخيه فامتنع غلاة الشيعة من إجابته وقالوا: لا حاجة لنا بذكر المأمون وقعدوا عنه وبعث إبراهيم بن المهدي من القواد سعيدا وأبا البط لقتاله فسرح إليهم العباس بن عمه وهو علي بن محمد الديباجة فانهزم ونزل سعيد وأبو البط الحيرة ثم تقدموا لقتال أهل الكوفة وقاتلهم شيعة بني العباس ومواليهم ثم سألوا الأمان للعباس وخرجوا من داره ثم قاتل أصحابه أصحاب سعيد فهزموهم وأحرقوا دور عيسى بن موسى وبلغ الخبر إلى سعيد بالحيرة بأن العباس قد نقض ورجع عن الأمان فركب وجاء إلى الكوفة وقتل من ظفر به ولقيه أهل فاعتذروا إليه بأن هذا فعل الغوغاء وأن العباس باق على عهده ودخل سعيد وأبو البط ونادوا بالأمان وولوا على الكوفة الفضل بن محمد بن الصباح الكندي ثم عزلوه وولوا مكانه غسان بن الفرج فقتل أخا السرايا ثم عزلوه وولوا الهول ابن أخي سعيد القائد وقدم حميد بن عبد الحميد لحربهم بالكوفة فهرب الهول وبعث إبراهيم بن المهدي بن عيسى بن محمد بن أبي خالد لحصار الحسن بواسط على طريق النيل وكان الحسن متحصنا بالمدينة فسرح أصحابه لقتالهم فانهزموا وغنم عسكرهم ورجع عيسى إلى بغداد فقاتل سهل بن سلامة المطوع حتى غلبه على منزله فاختفى في غمار النظار وأخذوه بعد ليال وأتوا به إسحق فقال: كل ما كنت أدعو إليه باطل فقالوا: أخرج فأعلم الناس بذلك فخرج وقال: قد كنت أدعوكم إلى الكتاب والسنة ولم أزل على ذلك فضربوه وقيدوه وبعثوا به إلى إبراهيم المهدي فضربه وحبسه وظهر أنه قتل في محبسه خفية لسنة من قيامه ثم أطلقه فاختفى إلى أن انقرض أمر إبراهيم وزحف حميد بن عبد الحميد سنة ثلاث ومائتين إلى قتال إبراهيم بن المهدي وأصحابه وكان عيسى بن محمد بن أبي خالد هو المتولى بأمر إبراهيم فداخلهم في الغدر بإبراهيم وصار يتعلل عليه في المدافعة عنه ونمي ذلك إلى إبراهيم بن هرون أخي عيسى فتنكر له ونادى عيسى في الناس بمسالمة حميد فاستدعاه إبراهيم وعاتبه بذلك فأنكر واعتذر فأمر به فضرب وحبس عدة من قواده وأفلت العباس خليفته فمشى بعض الناس إلى بعض ووافقوا العباس على خلع إبراهيم وطردوا عامله من الجسر والكرخ وثار الرعاع والغوغاء وكتب العباس إلى حميد يستقدمه ليسلم إليه بغداد ونزل صرصر وخرج إليه العباس والقواد وتواعدوا لخلع إبراهيم على أن يدفع لهم العطاء وبلغ الخبر إلى إبراهيم فأخرج عيسى وإخوته وسأله قتال حميد فامتنع ودخل حميد فصلى الجمعة وخطب للمأمون وشرع في العطاء ثم قطعه عنهم فغضب الجند وعاود إبراهيم سؤال عيسى في قتال حميد فقاتل قليلا ثم استأسر لهم وانفض العسكر راجعين إلى إبراهيم وارتحل حميد فنزل في وسط المدينة وتسلل أصحاب إبراهيم إلى المدائن فملكوها وقاتل بقيتهم حميد وكان الفضل بن الربيع مع إبراهيم فتحول إلى حميد وكاتب المطلب بن عبد الله بن مالك بأن يسلموه إليه وكان سعيد بن الساحور والبط وغيرهم من القواد يكاتبون علي بن هشام بمثل ذلك ولما علم إبراهيم بما اجتمعوا عليه أقبل على مداراتهم إلى أن جن الليل ثم تسرب في البلد واختفى منتصف ذي الحجة من سنة ثلاث وبلغ الخبر إلى حميد وعلي بن هشام فأقبلوا إلى دار إبراهيم فلم يجدوه وذلك لسنتين من بيعته وأقام علي بن هشام على شرقي بغداد وحميد على غربيها وأظهر سهل بن سلامة ما كان يدعو إليه فقربه حميد ووصله.
|